وفاة أبي حنيفةمد الله في عمر أبي حنيفة، وهيأ له من التلاميذ النابهين من حملوا
مذهبه ومكنوا له، وحسبه أن يكون من بين تلاميذه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن،
وزفر، والحسن بن زياد، وأقر له معاصروه بالسبق والتقدم، قال عنه النضر بن
شميل: "كان الناس نياماً عن
الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه"، وبلغ من سمو منزلته في
الفقه ان قال فيهِ الإمام
الشافعي : "الناس في
الفقه عيال على أبي حنيفة".
كما كان ورعاً شديد الخوف والوجل من
الله، وتمتلئ كتب
التاريخ والتراجم بما يشهد له بذلك، ولعل من أبلغ ما قيل عنه ما وصفه به العالم الزاهد
فضيل بن عياضبقوله: "كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه، مشهورا بالورع، واسع
المال، معروفا بالأفضال على كل من يطيف به، صبورا عل تعليم
العلمبالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في
حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من مال السلطان".
وتوفي أبو حنيفة في
بغداد بعد أن ملأ الدنيا علماً وشغل الناس في (11 من جمادى الأولى
150هـ/14 من يونيو
767م) ويقع قبره في مدينة
بغداد بمنطقة
الأعظمية في
مقبرة الخيزران على الجانب الشرقي من
نهر دجلة.
الامام ابوحنيفه وكيفيه حواره مع الملحدينقال الملحدون لأبي حنيفة: في أي سنة وجد ربك؟
قال: الله موجود قبل التاريخ والأزمنة لا أول لوجوده ثم قال لهم: ماذا قبل الأربعة؟ قالوا: ثلاثة
قال لهم: ماذا قبل الثلاثة؟ قالوا: اثنان
قال لهم: ماذا قبل الإثنين؟ قالوا: واحد
قال لهم : وما قبل الواحد ؟ قالوا : لا شئ قبله ..
قال لهم: إذا كان الواحد الحسابي لا شئ قبله فكيف بالواحد الحقيقي وهو الله إنه قديم لا أول لوجوده
قالوا: في أي جهة يتجه ربك؟
قال: لو أحضرتم مصباحا في مكان مظلم إلى أي جهة يتجه النور قالوا: في كل مكان
قال: إذا كان هذا النور الصناعي فكيف بنور السماوات والأرض
قالوا: عرّفنا شيئا عن ذات ربك؟
فقال: هل جلستم بجوار مريض مشرف على النزع الأخير؟ قالوا: جلسنا
قال: هل كلمكم بعدما أسكته الموت؟ قالوا: لا
قال: هل كان قبل الموت يتكلم ويتحرك؟ قالوا: نعم
قال: ما الذي غيره؟ قالوا: خروج روحه
قال: أخرجت روحه؟ قالوا: نعم
قال: صفوا لي هذه الروح هل هي صلبة كالحديد أم سائلة كالماءأم غازية كالدخان والبخار؟ قالوا: لا نعرف شيئا عنها
قال: إذا كانت الروح المخلوقة لا يمكنكم الوصول إلى كنهها فكيف تريدون مني أن اصف لكم الذات الإلهية؟
الأمام أبو حنيفه ولقاه مع الأمام الباقر من آل البيتذهب الإمام أبو حنيفة لتأدية مناسك الحج وقابل هناك الإمام محمد
الباقر- وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم- فرآه الإمام محمد الباقر
هناك ووجه له كلاما في منتهى الشدة فقال له: "أنت الذي غَيَّرت دين جدي
فقَدَّمت القياس على أحاديث جدي؟ - و"قَدَّمت القياس" أي تقيس بالرأي-.
فقال أبو حنيفة: "ما فعلتُ". قال الإمام محمد الباقر: "بل فعلتَ". فقال
أبو حنيفة: "يا إمام، هلا جلست حيث تحب حتى أجلس حيث أحب؟" فجلس الإمام
محمد الباقر على ما يشبه الكرسي أو الأريكة، فجاء أبو حنيفة وقال له: "أنت
جلست حيث تحب وأنا أجلس على الأرض حيث أحب أن أكون بين يديك". وقال له أبو
حنيفة: "إنما فعلت ذلك لأن مقامك عندي كمقام جدك عند أصحابه صلى الله عليه
وسلم. فقد بدأ معه أبو حنيفة هكذا حتى قبل أن يشرح له وجهه نظره، فقد قال
له الإمام محمد الباقر: "أنت الذي غَيَّرت دين جدي!"، فكأنما يقول له أبو
حنيفة في أول رد عليه: "انظر لجلستي وطريقتي معك تعرف منها أنني لم أغيّر
دين جدك".
ثم جلس كلاهما أمام بعضهما البعض وقال أبو حنيفة: "يا إمام، أنت تقول
أنني غَيَّرت دين جدك بالقياس بالرأي وتركت حديثه". قال: "نعم، فعلت".
فقال: "يا إمام، أسألك ثلاثة أسئلة..." السؤال الأول: "أيهما أضعف، الرجل
أم المرأة؟" فقال محمد الباقر: "المرأة أضعف" - بدنيا المرأة أضعف-. قال:
"في دين جدك صلى الله عليه وسلم أيهما أقل من الآخر، ميراث الرجل أم ميراث
المرأة؟" قال له: "المرأة نصف الرجل". فقال: "فلو كنت أعمل بالرأي وأترك
حديث جدك ودين جدك لقلت المرأة أضعف فتستحق ضعف ما يستحق الرجل. لكني لم
أقل ذلك لأن حديث النبي مُقَدَّم عندي على رأيي".
السؤال الثاني: "أيهما أعظم عند الله، الصلاة أم الصيام؟" فقال:
"الصلاة". فقال: "يا إمام، المرأة بعد رمضان يفوتها صلاة وصيام. بما أمرها
جدك صلى الله عليه وسلم أن تقضي الصلاة أم الصيام؟" قال: "الصيام". فقال:
"فلو كنت أجتهد برأيي وأترك حديث النبي لقلت الصلاة أفضل، فتقضي الصلاة
ولا تقضي الصيام. لكني لم أفعل ذلك. قلت كما قال جدك، تعيد الصيام ولا
تعيد الصلاة". يتكلم أبو حنيفة هنا بالعقل ولكن بتواضع.
السؤال الثالث: قال: "يا إمام، أيهما أكثر نجاسة، البول أم النُطفَة؟"
- "النُطفَة" أي التي يأتي منها الولد عندما يجامع الرجل زوجته-. فقال:
"في دين جدي، البول أنجس". فقال: "يا إمام، لو كنت آخذ بالرأي وأجتهد
وأترك حديث النبي لقلت البول نغتسل منه والنُطفَة نتوضأ منها..." لأن
البول أنجس "...لكني قلت كما قال جدك "البول نتوضأ منه والنُطفَة نغتسل
منها" فلم أُغَيِّر بالرأي يا إمام، وإنما فعلت ما فعلت يا إمام لأن
العراق كل يوم الناس تكون في جديد، فأردت أن أحمل الناس لدين جدك". فقام
محمد الباقر وقَبِّل رأس أبي حنيفة. لم يتصارع أبو حنيفة أيها الناس، أو
يقول له مثل: "أنك تقول أنني غَيَّرت دين جدك! لا لم أُغََيِّر به!"، "بل
غَيَّرت به!"، "إذًا فليكن، غَيَّرت به ومن يعجبه هذا فليكن كذلك، ومن لا
يعجبه فلا يعجبه..." ونبدأ في الصراع. ولكن أبو حنيفة هنا استخدم المنطق
العقلي --
مظاهر القدوة في شخصية أبي حنيفة
- احترامه وتقديره لمن علمه الفقه:
فقد ورد عن ابن سماعة، أنه قال: سمعت أبا حنيفة يقول: ما صليت صلاة مُذ
مات حماد إلا استغفرت له مع والدي، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علماً، أو
علمته علما.
- سخاؤه في إنفاقه على الطلاب والمحتاجين وحسن تعامله معهم، وتعاهدهم
مما غرس محبته في قلوبهم حتى نشروا أقواله وفقهه، ولك أن تتخيل ملايين
الدعوات له بالرحمة عند ذكره في دروس العلم في كل أرض. ومن عجائب ما ورد عنه أنه كان يبعث بالبضائع إلى بغداد، يشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى الكوفة،
ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين
وأقواتهم، وكسوتهم، وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح
إليهم، فيقول: أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا؛ فإني ما أعطيتكم من
مالي شيئا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضاعتكم؛ فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي فما في رزق الله حول لغيره.
- سؤاله عن أحوال أصحابه وغيرهم من الناس، وحدث حجر بن عبد الجبار، قال:
ما أرى الناس أكرم مجالسة من أبي حنيفة، ولا أكثر إكراماً لأصحابه. وقال
حفص بن حمزة القرشي: كان أبو حنيفة ربما مر به الرجل فيجلس إليه لغير قصد
ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كانت به فاقة وصله، وإن مرض عاده.
- حرصه على هيبة العلم في مجالسه؛ فقد ورد عن شريك قال كان أبو حنيفة طويل الصمت كثير العقل.
- الاهتمام بالمظهر والهيئة؛
بما يضفي عليه المهابة، فقد جاء عن حماد بن أبي حنيفة أنه قال: كان أبي
جميلا تعلوه سمرة حسن الهيئة، كثير التعطر هيوباً لا يتكلم إلا جواباً ولا
يخوض فيما لا يعنيه. وعن عبد الله ابن المبارك قال: ما رأيت رجلا أوقر في
مجلسه ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة.
فقد قال أبو عاصم النبيل كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته، واشتهر
عنه أنه كان يحيى الليل صلاة ودعاء وتضرعا. وذكروا أن أبا حنيفة صلى
العشاء والصبح بوضوء أربعين سنة. وروى بشر بن الوليد عن القاضي أبي يوسف
قال بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لآخر هذا أبو حنيفة
لا ينام الليل فقال أبو حنفية و
الله لا يتحدث عني بما لم أفعل فكان يحيى
الليل صلاة وتضرعا ودعاء، ومثل هذه الروايات عن الأئمة موجودة بكثرة، والتشكيك في ثبوتها له وجه، لاشتهار النهي عن إحياء
الليلكله، وأبو حنيفة قد ملأ نهاره بالتعليم مع معالجة تجارته، فيبعد أن يواصل
الليل كله. ولكن عبادة أبي حنيفة وطول قراءته أمر لا ينكر، بل هو مشهور
عنه ، فقد روي من وجهين أن أبا حنيفة قرأ
القرآن كلهُ في ركعة.
فقد روى لنا القاسم بن معن أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قول
الله في
القرآن: ( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )
سورة القمر، آية 46، ويبكي ويتضرع إلى
الفجر.
وخصوصا في الأمور المالية، فقد جاء عنه أنه كان شريكاً لحفص بن عبد
الرحمن، وكان أبو حنيفة يُجهز إليه الأمتعة، وهو يبيع، فبعث إليه في رقعة
بمتاع، وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيباً، فإذا بعته، فبين. فباع حفص
المتاع، ونسى أن يبين، ولم يعلم ممن باعه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن
المتاع كله.
تربيته لنفسه على الفضائل كالصدقة، فقد ورد عن المثنى بن رجاء أنه قال
جعل أبو حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقا أن يتصدق بدينار وكان إذا أنفق
على عياله نفقة تصدق بمثلها.
- وكان حليما صبورا، وله حلم عجيب مع العوام؛
لأن من تصدى للناس لا بد وأن يأتيه بعض الأذى من جاهل أو مغرر به، ومن
عجيب قصصه ما حكاه الخريبي قال: كنا عند أبي حنيفة فقال رجل: إني وضعت
كتابا على خطك إلى فلان فوهب لي أربعة آلاف درهم، فقال أبو حنيفة إن كنتم
تنتفعون بهذا فافعلوه. وقد شهد بحلمه من رآه، قال يزيد بن هارون ما رأيت
أحدا أحلم من أبي حنيفة، وكان ينظر بإيجابية إلى المواقف التي ظاهرها
السوء، فقد قال رجل لأبي حنيفة (أتق
الله)، فأنتفض وأصفر وأطرق وقال: (جزاك
اللهخيرا ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا) ، وجاء إليه رجل،
فقال: (يا أبا حنيفة، قد أحتجت إلى ثوب خز) ، فقال: ما لونه؟ قال: كذا،
وكذا ، فقال له: أصبر حتى يقع، وآخذه لك، _إن شاء الله_ ، فما دارت الجمعة
حتى وقع، فمر به الرجل، فقال: قد وقعت حاجتك، وأخرج إليه الثوب، فأعجبه،
فقال: يا أبا حنيفة، كم أزن؟ قال: درهماً ، فقال الرجل: يا أبا حنيفة ما
كنت أظنك تهزأ ، قال: ما هزأت، إني اشتريت ثوبين بعشرين ديناراً ودرهم،
وإني بعت أحدهما بعشرين ديناراً، وبقي هذا بدرهم، وما كنت لأربح على صديق.
- الجدية والاستمرار وتحديد الهدف:
فقد وضع نصب عينيه أن ينفع الأمة في
الفقه والاستنباط، وأن يصنع رجالا قادرين على حمل تلك الملكة.
- ترك الغيبة و الخوض في الناس. فعن ابن المبارك: قلت لسفيان الثوري، يا أبا عبد الله، ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة، وما سمعته يغتاب عدوا له قط. قال: هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها. بل بلغ من طهارة قلبه على المسلمين شيئا عجيبا، ففي تأريخ بغداد
عن سهل بن مزاحم قال سمعت أبا حنيفة يقول: "فبشر عباد الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ " قال: كان أبو حنيفة
يكثر من قول: (اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له).
- حرصه على بناء شخصيات فقهية تحمل عنه علمه:
وقد نجح أيما نجاح. ومن طريف قصصه مع تلاميذه التي تبين لنا حرصه على
تربيتهم على التواضع في التعلم وعدم العجلة ، كما في (شذرات الذهب): لما
جلس أبو يوسف للتدريس من غير إعلام أبي حنيفة أرسل إليه أبو حنيفة رجلا
فسأله عن خمس مسائل وقال له: إن أجابك بكذا فقل له: أخطأت، وإن أجابك بضده
فقل له: أخطأت فعلم أبو يوسف تقصيره فعاد إلى أبي حنيفة فقال: "تزبيت قبل
أن تحصرم". أي بمعنى
تصدرت للفتيا قبل أن تستعد لها فجعلت نفسك زبيبا
وأنت لازلت حصرما).
- تصحيحه لمفاهيم مخالفيه بالحوار الهادئ:
قد كان التعليم بالحوار سمة بارزة لأبي حنيفة، وبه يقنع الخصوم
والمخالفين، وروى أيضا عن عبد الرزاق قال: شهدت أبا حنيفة في مسجد الخيف
فسأله رجل عن شيء فأجابه فقال رجل: إن الحسن يقول كذا وكذا قال أبو حنيفة
أخطأ الحسن قال: فجاء رجل مغطى الوجه قد عصب على وجهه فقال: أنت تقول أخطأ
الحسن ثم سبه بأمه ثم مضى فما تغير وجهه ولا تلون ثم قال: إي والله أخطأ
الحسن وأصاب بن مسعود.
- ومن مظاهر القدوة عدم اعتقاده أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن غيره من العلماء على خطأ؛
فقد جاء في ترجمته في
تأريخ بغدادعن الحسن بن زياد اللؤلؤي يقول: سمعت أبا حنيفة يقول قولنا هذا رأي، وهو
أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا. ولقد
بعث
الإمام زيدالفضلَ بن الزبير وأبا الجارود إلى الامام أبي حنيفة النعمان، فوصلا إليه
وهو مريض، فدعياه إلى نصرتهِ، فقال: « هو والله صاحب حق، وهو أعلم مَنْ
نعرف في هذا الزمان، فاقرئاه مني السلام وأخبراه أن مرضاً يمنعني من
الخروج معه » . نرجو وضع السند للحديث
مؤلفاتهوضع الإمام أبو حنيفة عدة كتب في
الفقه الحنفي منها:
المصادراصول التاريخ الإسلامي للباحث جمال الدين فالح الكيلاني مراجعة الدكتورسالم الالوسي